الثلاثاء، 13 أغسطس 2013

إعادة صياغة أصول الفقه في ضوء المقاصد الشرعية


قال رسولنا الكريم : "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" [1] ويكون هذا التجديد بمواجهة الشريعة وأحكامها للتطور ومعالجة قضايا العصر بحيث لا تضيق الشريعة بأية مستجدات. وفي رأيي فإن علم أصول الفقه ووضع قواعد الاجتهاد الفقهي على يد الإمام الشافعي كانا أحد وجوه هذا التجديد. كذلك، فإن مقاصد الشريعة هي وجه آخر للتجديد أتاح تطوير علم الأصول وأعاد صياغة بعض أصوله ليخلصه من شوائب جمودٍ اعترت أجزاءاً فيه. وفيما يلي سنعرض لدور المقاصد الشرعية في إعادة صياغة أصول الفقه.

يهدف علم أصول الفقه إلى ضبط عمليات الاجتهاد الفقهي ووضع الأسس التي تمكن الفقيه من استنباط الأحكام الشرعية. وهناك منهجان أساسيان لاستنباط الأصول[2]:

-       منهج المتكلمين الذي اعتمد بالأساس على النظر العقلي وتجريد القواعد العامة من المسائل الفقهية
-       منهج الفقهاء وتركز فيه الاهتمام على الكيفية التي سلكها أصحاب المذاهب الفقهية في استدلالهم على أحكام الشريعة
إلا إنه مع تقدم العصور ظهرت مستجدات ومتغيرات اجتماعية وسياسية لم يستطع الاجتهاد الفقهي استيعابها لأسبابٍ منها اختلاف المناهج الأصولية و اختلاف الفقهاء في تأويل النصوص إضافة إلى "اعتصار الألفاظ" – حسب مصطلح الطاهر ابن عاشور[3]- وإغفال ما يحف بها من قرائن واصطلاحات وسياق. ومن هنا بدأ الاهتمام بمقاصد الشريعة.

بدأت المقاصد الشرعية كمبحث أصولي تحت أسماء مختلفة مثل : قصد الشارع بالحكم ومناسبة القياس والحكمة اوالمصلحة والمصالح المرسلة واستخدمت هذه المصطلحات في الأغراض الفقهية التالية:

-       التعليل: وهو معرفة علة الأحكام الشرعية، والعلة هي الوصف الظاهر المنضبط الذي بني عليه الحكم، وربط به وجوداً وعدماً، لأنه مظنة تحقيق المصلحة والحكمة من تشريع الحكم[4].
-       الترجيح : تقديم أحد الدليلين المتعارضين لما فيه من مزية معتبرة تجعل العمل به أولى من الآخر.[5]
-       تعارض نصين أو دليلين: وهو اقتضاء كل واحد منهما في وقت واحد حكماً في الواقع يخالف ما يقتضيه الدليل الآخر فيها[6].
-       تغير الفتوى وذلك بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات.
-       منع التحيل: والتحيل هو تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر[7]
وكان من الممكن – حسب رأي د/ طه جابر العلواني[8] - أن يكون التعليل منطَلقاً هاماً لبناء الفكر المقاصدي لكن الانشغال بالقياس حصر التعليل ليكون من أهم الأركان والدعائم له.

وقد استخدم كلاً من الجويني والغزالي"مقاصد الشريعة" كمصطلح في كتابيهما "البرهان" و"المستصفى" إلا إن معالم المنهج المقاصدي اتضحت مع الشاطبي في كتاب "الموافقات". وكمصطلح تعرف "مقاصد الشريعة" بالهدف أو الأغراض أو المطلوب أو الغاية من الأحكام الإسلامية[9] و يهدف التفكير المقاصدي إلى إدارة الأحكام مع مقاصدها الشرعية للحفاظ على مرونة الفقه الإسلامي وقدرته على استيعاب تغير الأحوال وتبدل الأعصار[10].

وقد ساعد تناول أصول الفقه برؤية مقاصدية على إثراء الرصيد الفقهي وتنقية الفقه من الحيل والتشبث بالألفاظ وفقه التقليد القائم على اعتبار فقه الأئمة مثل نصوص الشارع وانعكست آثار الفكر المقاصدي في:

-       توفير قاعدة كلية تمنع التضارب بين الآراء الفقهية وتأويلات نصوص الشريعة، وكما قال ابن القيم " فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة  إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل"[11]
-       إعادة صياغة تعريف الإجماع حيث لم يتحقق الإجماع بمعناه الأصولي إلا في عصر الصحابة مما دعا المجددون من أمثال حسن الترابي وأحمد حمد إلى العمل على إعادة صياغته ليكون أكثر ملاءمة للعصر
-       إعادة النظر في دعاوى النسخ في آيات القرآن حيث رفض العلماء مثل طه جابر العلواني القول بنسخ القرآن وسعوا في ضوء مقاصد الشريعة إلى الوصول للمقصد من الآيات المختلف فيها لتوضيح الهدف من أحكامها وإن كانت عامة ، أم خاصة ، أم متدرجة وهكذا
-       مراجعة متون الأحاديث الشريفة بناءاً على توافقها مع أصول القرآن وقطعياته ومن ثم اعتماد هذه الأحاديث أو تضعيفها
-       التفريق بين الأحاديث النبوية التي يقصد بها التشريع وغيرها
-       اعتبار مصلحة الأمة أو الجماعة في مقابل المصلحة الفردية التي اقتصر عليها رواد علم الأصول
-       توسيع مفهوم القياس بحيث يعتمد على استقراء أكبر عدد من الحالات التي تتعلق بالموضوع واستنباط أصول ومقاصد عامة تبنى عليها الأحكام وهو ما أسماه البعض "القياس الواسع"[12].
ومما سبق تتضح أهمية الفكر المقاصدي ودوره الفعال في إعادة صياغة أصول الفقه بصورة تجعله أكثر استجابة لمتطلبات العصر وأوسع آفاقاً للاجتهاد الفقهي.




[1]  رواه أبو داود
[2]  الحسني، إسماعيل – نظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور
[3]  ابن عاشور، محمد الطاهر – مقاصد الشريعة الإسلامية
[4]  زيدان، عبد الكريم – الوجيز في أصول الفقه
[5]  النملة، عبد الكريم بن علي بن محمد – المهذب في علم أصول الفقه المقارن
[6] خلاف، عبد الوهاب - علم أصول الفقه
[7]  الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى – الموافقات
[8]  علواني ، طه جابر – نحو التجديد والاجتهاد من التعليل الاجتهادي إلى المقاصد القرآنية الحاكمة
[9]  ابن عاشور، محمد الطاهر – مقاصد الشريعة الإسلامية
[10]  عودة، جاسر – فقه المقاصد، إناطة الأحكام الشرعية بمقاصدها
[11]  المرجع السابق
[12]  أشار إلى ذلك جمال الدين عطية والحسن الترابي – انظر التجديد في أصول الفقه – جميلة بو خاتم 

الأحد، 14 يوليو 2013

في مدينتي الفاضلة -1


حدث في مدينتي الفاضلة أن علم الحاكم ذات يوم بوجود أزمة وقود لدى دولة من الجيران فما كان منه إلا أن كلف معاونيه بتقصي الأمر ومعرفة احتياجات الجيران وكيف يمكن أن يضمها إلى احتياجات شعبه وماذا تكون التكلفة. ثم عرض الأمر على المستشارين للوصول لصيغة تعاقد بين الدولتين لتوريد الوقود بما يضمن حقوق الطرفين وأذاع الأمر بين شعبه لمعرفة رأيهم واستقبال أسئلتهم وتخوفاتهم - إن وجدت - ثم بدأ التوريد بأمانة وشفافية وحل مشكلة الدولة الشقيقة وخلق فرص عمل لأفراد شعبه بحكم هذا التعاقد الجديد.

ولذلك عجبت أشد العجب عندما قرأت في الأخبار عن حاكم دولة يسمح بسرقة وتهريب وقود قومه ليساعد به دولة شقيقة فيصنع أزمة لشعبه ثم يخترع لهم الأعذار بل ويلومهم على نقص الوقود ويهددهم برفع ثمنه حتى لا يجهد ميزانيته بما يقدمه من دعم للوقود. 

وبجانب العجب شغلتني عدة أسئلة :
- لماذا لا يتمتع هذا الحاكم بالشفافية والجرأة ليعلن عن مشاكله وخططه ويطرح حلولاً ومشاريعاً تفيد شعبه وجيرانه؟
- هل يفتقد هذا الحاكم للثقة بينه وبين شعبه، فكيف يولى عليهم إذن؟
- لماذا يسمح الحاكم بالعمل في الخفاء وما يتبعه ذلك من ضياع حقوق (أين يذهب ثمن الوقود المهرب؟) واستخدام لقوى غير قانونية (كيف يتم حماية هذه المهربات أثناء رحلتها؟) ونشر للفساد (إذا كان رب البيت بالدف ضارب !!)؟
- ألا يمكن أن يؤثر هذا على نظرة الشعب "المسروق" لجيرانه؟ ألا يمكن أن يثير حفيظته أن تصدر له مشكلات الجيران دون تبرير؟
- هل الإعلان عن الرغبة في مساعدة الجار سيقابل بكم من الرفض والإنكار تدفع الحاكم لسرقة موارد شعبه وتهريبها؟ 
- هل تعد السرقة سرقة إذا ما كانت "لهدفٍ نبيل"؟ وهل يصلح أن يكون الحاكم حاكماً إذا ما كان سارقاً "لهدفٍ نبيل" ؟

وبحثت عمن يجيبني فلم أجد، فكل سكان مدينتي الفاضلة في نفس حالة الذهول من الخبر المنشور ومن إدارة الأزمة بهذه الطريقة .. فحمدت ربي على أن أوجدني في مدينتي الفاضلة أنعم بحاكم يساعد جيرانه ويرضي شعبه وبشعب يحب جيرانه ويعين حاكمه ودعوت لكل حاكم أن يرشده الله للصواب ويمتعه بالبصيرة ودعوت لكل شعب إن يول الله عليه من يصلح .

السبت، 6 يوليو 2013

أسس منهجية المفكر

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ المرسلين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً.

إخوتي وأخواتي من عائلةِ مفكر، يسعدني أن ألتقي بكم اليوم ضمن فعالياتِ المؤتمرِ الأول لطلبةِ مفكر وأود بدايةً التقدمَ بالشكرِ لأصحابِ الفكرة والقائمين عليها ولكلِ من بذل الجهدَ والوقتَ لإنجاحِ هذا المؤتمر.. كما أشكرُ السادةَ الحضور على متابعتهم ومشاركاتهم خلال الفعالياتِ السابقة. ويسعدني أن أشارككم اليوم بإدارة حلقةِ حوارٍ حولَ الأسسِ المنهجيةِ للمفكرِ ستبدأُ الحلقةُ بعرضِ كلمةٍ يُطرحُ مِن خلالِها بعضَ الأُسُسِ التي نعتقدُ بأهميتها للوصولِ لمنهجيةٍ صحيحة. يليها نقاشٌ لما وردَ من أفكارٍ خلال هذا الطرح. ونظراً لطبيعةِ الفقرةِ التفاعلية وللتأكدِ من تغطيةِ أهمِ الأفكار ومساهمةِ الجميع، أرجو أن لا يعتمدُ السادةُ الحضور على الذاكرةِ فقط وإن تيسر أن يتمَ أخذَ بعضَ الملاحظاتِ اثناء الطرح حتى يتسنى لنا الرجوعَ إليها عند النقاش.

تعلمنا في معهدِنا الحبيب أنه من الهامِ تحريرَ المصطلحاتِ قبل البدءِ في الحوار. وكما يتضح من عنوانِ الفقرة لدينا مصطلحان : المنهجيةَ والمفكرَ. وما نعنيه هنا بالمنهجية هو مجموعةُ القواعدِ العامةِ والخطواتِ والقوانينِ المنظمة التي تحكمُ عملياتِ العقل خلال البحثِ والنظرِ في مجالٍ معين. أما المفكر فهو - كما يعرفه أستاذنا د/ عبد الكريم بكار – شخصٌ من صفوةِ الناس، يحاولُ توفيرَ أسسٍ لقراءةِ الماضي والاستفادةِ منه كما يحاولُ توفيرَ قواعدٍ لفهمِ الحاضرِ واكتشافِ العلاقاتِ بين القوى المؤثرةِ فيه وهو في ذلك يتردد بين صناعةِ المفاهيم وبلورةِ الرؤى واستخلاصِ العبرِ وكشفِ السنن ..وبين إصلاحِ الواقعِ وتشخيصِ الأزماتِ التي يعاني منها الناس[1] وعليه فمنهجيةُ المفكرِ هي مجموعةُ الخطواتِ الحاكمةُ لعقلِ المفكرِ عند قراءتهِ للماضي واستخراجهِ للعبرِ منها وعند تطبيقهِ لأفكارهِ في الواقعِ بهدف إصلاحِ الأزماتِ وعند صياغتهِ للرؤى التي تمكنهُ من استشرافِ المستقبل .

وفي ضوءِ هذا التعريف يمكننا الخروجَ بعددٍ من الأسسِ التي تلزمُ المفكرَ للوصولِ إلى منهجيةٍ سليمةٍ للتفكيرِ أول هذه الأسس هو المرجعية.

المرجعية : هي مجموعةُ المبادئِ التي ترشدُ إلى ما هو صوابٌ وما هو خطأ وهي أصلٌ كليٌ جامع يُرجعُ إليهِ في حالاتِ الخلافِ والنزاع. وعادةً ما تكونُ المرجعيةُ مرجعيةً دينيةً أو فلسفية كما أنها قد تحوي قيماً ومبادئاً نابعةً من الهويةِ أو العاداتِ الموروثة. والتزامُ المفكر بمرجعيةٍ واضحة يمنعُ تناقضَ الأفكارِ وتداخلَها كما أنه يشكل إطاراً يُسهِّلُ على المتلقي تناولَ الفكرةِ من خلاله. ويرى الدكتور عبد الكريم بكار[2] أن المرجعيةََ وبخاصةٍ المرجعيةَ الإسلامية – أو ما أسماه بالمنهجِ الرباني كإطارٍ للتفاعلِ الثقافي - يؤمِّنُ تواصلاً ثابتاً بين الأجيالِ وأن الافتقارِ إليها يهدرُ الكثيرَ من الطاقاتِ في مناجزاتٍ ومناحراتٍ ثقافية.

ثاني الأسس هو المسئوليةُ الأخلاقية : فالمفكرُ على درجةٍ كبيرةٍ من المسئوليةِ تجاه عقلهِ وكلماتهِ ومستمعيه. وهي مسئوليةٌ نابعةٌ من دَورِ المفكرِ الإصلاحي. وكما يقول  الدكتور عبد الحميد أبو سليمان[3] فالمسئوليةُ الأخلاقيةُ هي ضمانٌ لاستقامةِ الفكرِ الإسلامي الصحيح وهذه المسئولية تقتضي ألا يقبلَ المفكرُ المسلمُ إلا أن يسعى بالحقِ والعدلِ والخيرِ والإعمارِ وكما يقال فسادُ العالِم يمكنه أن يفسد عالَماً.

 أما ثالث الأسس فهو أصالةُ الفكرة ولمصطلحِ الأصالةِ عدةُ معانٍ، فقد يستخدم المصطلح للتعبيرِ عن القِدمِ أو الأصالةِ التاريخية أوعن الإبداع. إلا أن ما نعنيه هنا بأصالةِ الفكرة هو أن تتسقَ الفكرةَ مع سلوكِ المفكرِ وتوجهاتِهِ أوكما عبَّر عنها د/ عدنان إبراهيم هي إنسجامُ الفكرةِ وملاءمةُ غاياتِها مع سلوكِ المفكر[4] إذ أن فقدانَ هذا الاتساق قد ينفرَ المتلقي من الفكرةِ ويفرغها من مضمونِها.

ورابع الأسس هو الرؤية النقدية : فإذا ما رجِعنا لتعريفِ المفكر نجد أن المفكرَ ينظرُ في الماضي ويستخلصُ منه العبر وينظرُ في الحاضرِ كذلك فيحدِدُ مشكلاتِه وبواعثَها ولا يتأتي ذلك إلا من خلالِ تمتعهِ برؤيةٍ نقديةٍ سليمةٍ لا تتعاملُ مع المعلوماتِ السطحيةِ وتتناولُها بالنقلِ والشرحِ فقط بل تستطيعَ أن تنفذَ للجذورِ وأن تُعملَ فيها التصنيفَ والتحليل ، فتُحدد الثوابتِ والمتغيراتِ وتُظهرَ مناطقَ الخلل وإمكاناتِ التطويرِ والتحسينِ

والأساسُ الخامسُ هو الإنفتاحُ المعرفي فلكي يصلُ المفكرُ لرؤيةٍ نقديةٍ واضحةٍ يَلزَمُهُ الإنفتاحَ على الأفكارِ الأخرى المشابهةِ والمعارضةِ والمضادة وأن ينصتَ لها ويتفهمَها ويحاورَها[5]. وأن يقارنَ فكرتَه بالفلسفاتِ والدياناتِ والمرجعياتِ الفكريةِ الأخرى وبالسياقِ التاريخي. فالإنفتاحُ على الأفكارِ الأخرى يوسِّعُ المداركَ ويمنعُ قولبةَ الأفكار وتكوينَ الأصنامِ الفكريةِ والعقائدية، كما أنه يفتحُ مجالاً للتساؤلِ ويفتحُ أبواباً للتحدي والنقاش.

الأساس السادس هو مراجعةُ الأفكار وتنقيحُها : فانفتاحُ المفكرِ على الثقافاتِ المختلفة يتيحُ له الفرصةَ لمناقشةِ أفكارِه وتقييمِها ومن ثَّم تشذِيبِها وتنقِيحِها. وهذه الخطوةُ هي خطوةٌ هامةٌ في منهجيةِ المفكرِ لما تقدمه من تجديدٍ للفكرِ وتنقيةٍ من الشوائبِ ولعل لنا في هذا أسوةٌ بالدكتور طارق البشري إذ يتحدث عن مراجعتِه لأفكارِه فيقول "....كنتُ أحتشدُ لكلِ دراسةٍ منها، أقرأُ وأطيلُ التفكير، وأجدُ عناصرَ في تفكيري السابقِ تذوي وتتحللُ وأخرى تبدو" ويستطردُ فيقول "ومن خلالِ هذا الجهدِ وهذه العمليةِ حدثَ عندي الإحلالُ الفكري بين ما ذوى وتحللَ من أصولٍ فكريةٍ كانت تشدُني، وبينَ ما قامَ واستقامَ من أصولٍ فكريةٍ أخرى أجرى علي دربِها اليوم"[6]

والعنصرُ السابعُ لدينا اليوم هو المعاصرة : إذ أنه من العبثِ أن تدورَ الأفكارُ حولَ قضايا باليةٍ قديمةٍ، فالفكرةُ الناجحة هي فكرةٌ ملائمةٌ للظرفِ التاريخي الذي أفرزت فيه والمفكرُ هو مراقبٌ متصلٌ بالواقعِ ومحللٌ له ، مطلعٌ على تحدياتِه ومستجيبٌ لها وكما يقول د/ طارق البشري[7] فأَثَرُ الدعواتِ والمذاهبِ يُقاسُ بمدى قدرتِها على الاستجابة للتحدياتِ التي واجهت الجماعةَ في ظرفٍ ما

العنصرُ الثامنُ هو شموليةُ مجالِ الفكر فتأثرُ المفكرِ بالتحدياتِ المحليةِ واستجابتهِ لها يجبُ ألا تكونَ حاجزاً يتوقفُ عندَه ويحُدُّ مجالَ أفكارِهِ داخل أسوارِه، بل من الواجبِ أن يتجاوزِ المكانَ فتكونَ رؤيتهُ شاملةٌ يمكنُ تطبيقُها في بقاعٍ عدة كما يجبُ أن تتجاوزَ أفكارُهُ الفترةَ الزمنيةَ الراهنةَ فتصلحُ للمستقبلِ أو كما يقول الدكتور محمد أحمد الراشد[8] أن يكونَ المفكرُ فوقَ المكانِ والزمانِ.

وتاسع الأسس هو الاستقلالية : وهي أن يكونَ للمفكرِ رؤيتُهُ الخاصة وطرحُهُ القائمُ على منهجٍ عمليٍ يتضحُ فيهِ المقدمةُ ومراحلُ التحليلِ والاستنتاج. فقد يشتركُ المفكرُ في مذهبٍ أو فلسفةٍ معَ من سبقَه، إلا أنه يعيدُ النظرَ فيما يعرضُ له من قضايا ويستعينُ بقراءاتهِ وخبرتهِ ورؤيتهِ النقدية ليدليُ بقولٍ فصلٍ في المسائلِ الجديدةِ التي يعانيها المجتمعُ سواءاً من نواحٍ سياسيةٍ او اجتماعيةٍ أوغيرها وأن يبذلَ في ذلك من الجهدِ بحيثُ لا جهدَ بعدَ ذلكَ كما يقول د/  الراشد[9].

والأساس العاشر هو الوصولُ للمعلومة : يختلفُ المفكرُ عن العالِمِ برحابة المجال الذي يتحرك فيه، فقد يصنف المفكرين – مجازاً – إلى مفكر سياسي ومفكر إسلامي أو مسيحي وغيرها من التسميات، إلا إنه في الواقع تتقاطع دوائر هذه المجالات الفكرية وتتداخل بصورة كبيرة بحيث لا يكون هناك غنىً للمفكر السياسي أن يحتاج لمعلومات اقتصادية ولا غنىً للمفكر الديني أن يستعين بمعلومات اجتماعية أو تاريخية، وهكذا فالعلوم الإنسانية علوم مترابطة وعلى المفكر أن يكون على دراية بمعلومات شتى في مجالات مختلفة، ولما كان من المستحيل الإلمام بالعلم كله فعلى المفكر أن يعرف الطريقة والمنهجية للوصول إلى المعلومة الصحيحة[10]

الأساس الحادي عشر هو التثبت من العلم : وكما يلزم  المفكر منهجية للوصول للمعلومة، يلزمه كذلك منهجية للتثبت منها، ففي عصر الإنفجار المعلوماتي الذي نعيش فيه، قد يكون من السهل الوصول إلى معلومة ما بفضل التقنيات الحديثة، إلا إنه كما لهذه التقنيات من فضل في تسهيل نشر المعلومات والحصول عليها فلها أيضاً دور في خلط المعلومات ودس بعضها بحيث أصبح من الصعب التمييز بين الحقيقي والموضوع وعليه فعلى المفكر التثبت من المعلومة قبل البناء عليها وذلك عن طريق الرجوع إلى المصادر الأصلية قدر المستطاع.

وأخيراً نطرح الأساس الثاني عشر وهو التأمل والروية: طريق الفكر طريق طويل ويلزمه العلم والمثابرة على تحصيله. وهنا يقول د/ محمد الراشد[11] أن الإنسان لا يكون مفكراً حتى يكون مخضرماً والمخضرم هو الذي مر بتجارب متعددة كما يقول د/خالص جلبي[12] أن النضج المعرفي يحتاج إلى ثلاثين سنة : عشر سنوات يقرأ فيها المفكر 300 كتاب من ذخائر الفكر الإنساني، تليها عشرون سنة يستخدمها المفكر في ملء الثغرات المعرفية وذلك عن طريق تحديده لأماكن القصور المعرفي لديه والبحث والقراءة فيها..بعدها يمكنه أن يبدأ بالكتابة وذلك بعد قراءة 5000 كتاب.


تناولنا فيما سبق بعض النقاط التي نرجو أن تكون قد فتحت لكم نافذة لمعرفة ما هي الأسس المطلوبة لوضع منهجية للمفكر وما قدمناه من طرح هو بحث فردي قائم بالأساس على آراء عدد من المفكرين البارزين في العالم العربي وهو محاولة مبدئية في هذا الباب ويعوزه المزيد من البحث  والتحقيق وعليه سنفتح باب النقاش حول ماذكرنا من أسس حتى نعمق الفكرة ونستزيد من إسهاماتكم في إثراء هذا الموضوع ونصحح ما بالطرح من ثغرات لنصل إلى صورة أوضح لأسس منهجية المفكر.

مدة النقاش 25-30 دقيقة والمخطط له أن يكون النقاش في الأساس بين السادة الحضور مع تدخل بسيط من جانبي إذا لزم الأمر. ونظراً لتعذر إعطاء الميكروفون للسادة الحضور، أستأذنكم في أن تقدموا اسهاماتكم كتابة سواءاً على صورة أو إجابات وملاحظات، على أن يوضح من يريد التعليق اسم الزميل الذي يرد على سؤاله أو يعلق على ملاحظته. وسأقوم بقراءة الأسئلة والإجابات عليها حتى يتسنى تسجيلها صوتياً ضمن فعاليات المؤتمر. فهل تتفقون معي على هذه الآلية ؟

بسم الله نبدأ وفي انتظار اسئلتكم



أسئلة للنقاش :

كيف يمكن التأكد من صحة المرجعية؟

تتغير القناعات بمرور الزمن وتغير الأحداث، فكيف يمكن أن نفرق بين المفكر المتسق مع أفكاره والذي قد يتغير تبعاً لتغير رؤيته وغيره ممن يتلون حسب الأجواء؟

هل تتعارض شمولية الأفكار مع الهوية؟

هل يمكن أن يصدر فكر دون تحدي معاصر؟ هل يجب البحث عن تحدي في حالة حدوث ركود فكري؟

هل نملك من الوقت والجهد ما يكفي لنصبح "مخضرمين"؟

إلى أي مدى يمكن للمفكر الرجوع إلى فلسفات سابقة والاعتماد عليها دون تقديم جديد؟





[1]  د/ عبد الكريم بكار ، تكوين المفكر
[2]  عبد الكريم بكار، تجديد الوعي
[3]  عبد الحميد أبو سليمان في كتابه قضية المنهجية في الفكر الإسلامي
[4]  د/ عدنان إبراهيم ، فيديو دعوة للخروج من الأطر الذاتية
[5]  د/ محمد أحمد الراشد، فيديو صناعة المفكر
[6]  طارق البشري: في المسألة الإسلامية المعاصرة – بين الإسلام والعروبة
[7]  طارق البشري: في المسألة الإسلامية المعاصرة – بين الإسلام والعروبة
[8]  د/ محمد أحمد الراشد، فيديو صناعة المفكر
[9]  د/ محمد أحمد الراشد، فيديو صناعة المفكر
[10]  د/ محمد أحمد الراشد، فيديو صناعة المفكر
[11]  د/ محمد أحمد الراشد، فيديو صناعة المفكر
[12]  د/ خالص جلبي – قوانين الثقافة والبناء المعرفي