الأحد، 9 ديسمبر 2012

ولذلك خلقهم - بحث في الدعائم الفكرية للاختلاف


تعريف الاختلاف

الاختلاف هو عدم الاتفاق أو عدم التساوي[1]. وقد ورد لفظ الاختلاف أكثر من مرة في القرآن الكريم تارة بمعنى التباين والمغايرة " فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ"[2] وتارة أخرى بمعنى التنوع " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ.وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ "[3].

والاختلاف سنة كونية، فالله هو الواحد والوحدة مقصورة على ذاته الكريمة وما دونه من خلق ومخلوقات متعدد في الأنواع والأشكال والصفات والطباع.  وعليه فالاختلاف فطرة وطبيعة في البشر وهو ما تخبرنا به الآية الكريمة " وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ "[4] ويفسرها صاحب المنار بقوله : "خلقهم مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم وشعورهم وما يبتع ذلك من إراداتهم واختيارهم في أعمالهم ومن ذلك الدين والإيمان والطاعة والعصيان"[5]

وبغير الاختلاف لكان الناس بعقل رجل واحد ولما تمايزت الأمم مما يعطل شريعة الله واستخلاف الإنسان في الأرض .وفي هذا يقول سيد قطب مفسراً لقوله تعالى  "  وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ "[6] : "إن من طبيعة الناس أن يختلفوا لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض والاختلاف في الاستعدادت والوظائف ينشئ بدوره اختلافا في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق ولقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ولولا طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها ان تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع فتنفض عنها الكسل والخمول وتظل أبداً يقظة عاملة مستنبطة لذخائر الأرض وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء"[7]

إلا أنه ليس كل الاختلاف محموداً فهناك من الاختلاف ما يوحي بالتكامل والتناغم وغيره مما يدفع للشقاق والنزاع. وللاختلاف المحمود شروط ودعائم بمراعاتها يتحقق الهدف من التدافع ويتم عمران الأرض وبدونها يتحول الاختلاف إلى نقمة تسعى لإقصاء وإفناء الآخرين في تعصب وجاهلية تحت ستار امتلاك الحقيقة أو في أحسن الفروض البحث عنها.

وفي بحثنا محاولة لاستنباط الدعائم الفكرية للاختلاف من النصوص القرآنية وصحيح السنة ونستعين فيه بسيرة الصحابة والأئمة وتفاسير العلماء وطرحهم في هذا المجال.

الدعائم الفكرية للاختلاف

1-       الاختلاف في الفروع :
أول الدعائم أن أن يكون الاختلاف في الفروع وليس في الأصول، وقد عرف الإمام أبو حامد الغزالي الأصول بأنها ثلاثة : "الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر وماعداه فروع"[8] وأضاف ابن عاشور إلى هؤلاء ما اجتمع عليه الناس أنه من أصول الدين وذلك في تفسيره للآية : "
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ "[9] حيث قال "وتفريق دين الإسلام هو تفريق أصوله بعد اجتماعها...... وأمّا تفريق الآراء في التّعليلات والتَّبيينات فلا بأس به، وهو من النّظر في الدّين: مثل الاختلاف في أدلّة الصّفات، وفي تحقيق معانيها، مع الاتّفاق على إثباتها. وكذلك تفريق الفُروع: كتفريق فروع الفقه بالخلاف بين الفقهاء، مع الإتّفاق على صفة العمل وعلى ما به صحة الأعمال وفسادها. كالاختلاف في حقيقة الفرض والواجب."[10]

2-       تحديد المرجعية :
فالاختلاف من غير مرجع لا يؤدي إلا إلى خلاف آخر وبتحديد المرجعية يسهل تحديد النقاط المتفق عليها والتي يمكن التعاون فيها والوقوف عندها إذا احتدم الخلاف. ومرجعية أمة الإسلام في المسائل الشرعية هي القرآن والسنة "
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"[11]  وفيها يكون التركيز على المحكمات لا المتشابهات. أما في غيرها من شئون الحياة، فيجب أن تكون هناك نصوص أو قيم محددة يؤطر من خلالها الاختلاف.

3-       التركيز على الهدف :
كلما كبرت الغاية قل الاختلاف وكلما خلت النفوس من الأهداف الكبرى غرقت في بحور الجدل وتنازعت حول المسائل الفرعية الهامشية. عدم وضوح الهدف يؤدي إلى سلسلة لا نهائية من الجدل كذلك فالاختلاف في صغائر الأمور لا طائل من ورائه سوى إضاعة الوقت لذلك غضب ابن عمر عند سؤاله عن دم البعوض يكون في ثوب الرجل[12].

4-       بناء الاختلاف على الدليل والحجة :
تحذرنا الآية الكريمة "
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ"[13] من الخلاف غير المبني على حجة شرعية ولا على أصول صحيحة. ويدخل في ذلك من يأخذ ببعض الكتاب ويدع بعضاً أو يضخم بعض الأمور على حساب بعضها الآخر ولهذا قال الله سبحانه "زبرا" إشارة إلى التنازع المبني على الادعاء العلمي أو الركون إلى اصل صحيح لكن أسيء أو تجوز به حده[14]

5-       الأخذ عن أهل العلم :
لا يؤخذ العلم إلا ممن تحقق منه، وشروط العالم أن يكون : عارفاً بأصول العلم وما ينبني عليه، قادراً على التعبير عن مقصوده فيه، عارفاً بما يلزم عنه ، قائماً على دفع الشُبه الوارده فيه. غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ البتة ولا يقدح في كونه عالماً ولا يضر في كونه إماماً يقتدى به.[15] ويجب أن ننأى بمن ليس من أهل العلم عن الدخول في مسائل الخلاف والترجيح بين الأقوال تحقيقاً لأمر الله تعالى "ولا تقف ما ليس لك به علم"
[16]

6-       الوضوح والدقة في العبارات:
هناك من الألفاظ ما يختلف معناه باختلاف السياق ومثال ذلك كلمة "كفر" التي وردت في القرآن الكريم بمعنى جحود وجود الله أو جحود الأنبياء والرسالة وساقها الرسول عليها الصلاة والسلام بمعنى النكران في قوله "يكفرن العشير"[17] . وعليه يجب الالتزام بمعان واضحة ومتفق عليها للعبارات، كما يجب التعويل على المفاهيم المصرح بها وليس على النوايا الخفية وراءها أسوة بحديث الرسول الكريم "أفلا شققت عن قلبه"[18]

7-       رجحان أحد الآراء لا ينفي الحكمة عن الآخر:
ويخبرنا بذلك القرآن الكريم في سورة الأنبياء : "
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا"[19] فالآية تدلنا على صدور حكمين – كليهما صواب – إلا أن الأول راعى العدل فقط بينما أضاف الآخر إلى العدل البناء والتعمير فكان أولى دون نفي الحكمة عن الأول[20]. وعلى غرار هذا قال عمر بن الخطاب : "ليس هناك رأي بأدلى من رأي وليس هناك فهم بأدلى من فهم حتى لو كان رأي عمر ورأي زيد بن ثابت"[21] . وعليه يجب احترام الرأي الآخر واحترام صاحبه وعدم تحقيره أو السخرية منه ويرشدنا لذلك نبي الهدى بقوله :" بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"[22]

8-       الاختلاف لا يفسد للود قضية :
وتسليمنا بما سبق يقودنا لرفض أن يتحول الاختلاف إلى نزاع. فقد قال الله عز وجل
" وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"[23] ذلك أن يكون الحق هو هدف الاختلاف وليس العصبية أو الهوى وقد اختلف عمر وابن مسعود في 100 مسألة وما نقص من حب أحدهما لصاحبه[24]، وقال أبوحنيفة : "هذا الذي نحن فيه رأي ولا نجبر أحداً عليه. إنه أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بشئ أحسن منه قبلناه"[25] وكما يصح في الأمور الشرعية، يصح أيضاً في الأمور الدنيوية، كما يقول الإمام الأصولي بن برهان : "فإن الشرائع سياسات يدبر الله بها عباده والناس مختلفون في ذلك بحسب اختلاف الأزمنة، فلكل زمان نوع من التدبير وحظ من اللطف والمصلحة تختص به، كما أن لكل أمة نوعا من التدبير يصلحهم وإن كان ذلك مفسدة في حق غيرهم"[26]

9-       الحوار بالتي هي أحسن:
قال تعالى : "
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"[27]  فعلى المخالف أن يختار أرق التعبيرات وألطفها في مخاطبة الطرف الآخر فهو أقرب إلى تأليف القلوب وأجدر أن يثير التفكر ويقود إلى الاقتناع، وقد نهى عليه الصلاة والسلام الصحابة عن تدبر القرآن إذا ما اختلفت قلوبهم " اقرءوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه"[28]

10-  الإنصاف:
وهو أن تنزل الآخرين منزلة نفسك في الموقف وله معايير وتطبيقات منها
                                  أ‌-          أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين
                               ب‌-       أن الخطأ في الحكم بالإيمان أهون من الخطأ في الحكم بالكفر
                               ت‌-       أنه لا تأثيم ولا هجران في مسائل الاجتهاد
                               ث‌-       أن تقبل ما لدى خصمك من الحق والصواب حتى لو كان فاسقأ أو مبتدعاً أوكافراً
                                ج‌-        أن لا يكتم العالم من الحق الذي يعلمه شيئاً فإن هذا شأن أهل البدع يكتبون الذي لهم ولا يكتبون الذي عليهم
                                ح‌-        أن تلتمس العذر للمخالف إما لجهله بحقيقة ما أو لاجتهاده حسب رؤيته أو لاختلاف العلماء في موضع النقاش

11-  المعيار هو الصواب  والخطأ وليس الكفر والإيمان:
وأخيراً فإن معيار الخلاف – فيما عدا الأصول – هو الصواب والخطأ والنفع والضرر وليس الكفر والإيمان. وفي ذلك يقول حجة الإسلام الغزالي : واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلا إلا في مسألة واحدة وهي أن ينكر أصلا دينيا علم من الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر لكن في بعضها تخطئة كما في الفقهيات وفي بعضها تبديع كالخطأ المتعلق بالإمامة وأحوال الصحابة. واعلم أن الخطأ في أصل الإمامة وتعينها وشروطها وما يتعلق بها لا يوجب شيئاً منها تكفيراً....والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل"[29] ولنا في سيدنا علي بن أبي طالب أسوة إذ رفض تكفير الخوارج رغم محاربته لهم وخروجهم عليه.


[1]  انظر لسان العرب ، القاموس المحيط
[2]  الزخرف : 65
[3]  فاطر : 27-28
[4]  هود : 118-119
[5]  تفسير المنار – محمد رشيد رضا
[6]  البقرة : 251
[7]  في ظلال القرآن – سيد قطب
[8]  الاقتصاد في الاعتقاد – أبو حامد الغزالي نقلاً عن الإسلام والتعددية الاختلاف والتنوع في إطار الوحدة – د. محمد عمارة
[9]  الأنعام : 159
[10]  انظر تفسير الآية في التحرير والتنوير – ابن عاشور
[11]  الشورى : 10
[12]  أخرجه البخاري
[13]  المؤمنون : 53
[14]  كيف نختلف – د. سلمان العودة (بتصرف)
[15]  أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين – محمد عوامة
[16]  الأسراء : 36
[17]  أخرجه البخاري
[18]  رواه مسلم
[19]  الأنبياء : 79
[20]  انظر تفسير "في ظلال القرآن" للآية
[21]  نقلاً عن أدب الخلاف والاختلاف في الإسلام – عبد العزيز الشناوي
[22]  رواه أبو داود
[23]  الأنفال : 46
[24]  نقلاً عن أدب الخلاف والاختلاف في الإسلام – عبد العزيز الشناوي
[25]  نقلاً عن الإسلام والتعددية الاختلاف والتنوع في إطار الوحدة – د. محمد عمارة
[26]  نقلاً عن المرجع السابق
[27]  النحل : 25
[28]  رواه البخاري
[29]  نقلاً عن التعددية الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية – د. محمد عمارة
المراجع :
            تفسير المنار / في ظلال القرآن / التحرير والتنوير        الإسلام والتعددية الاختلاف والتنوع في إطار الوحدة – د. محمد عمارة
            كيف نختلف – د. سلمان العودة                            أدب الخلاف والاختلاف في الإسلام – عبد العزيز الشناوي
            أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين – محمد عوامة     التعددية الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية – د. محمد عمارة
            أدب الاختلاف – عبد الله بن بيه                            الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم – د.يوسف القرضاوي

الجمعة، 2 نوفمبر 2012

الـنظـــام الإجتمـــاعـي من المنظور الإسلامي





"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ استَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيُيكُم"[1]
الدين الإسلامي دين حياة، وقد عنيت الشريعة الإسلامية بوضع القواعد والضوابط الاجتماعية التي تضمن للأمة العيش في تضامن وتعاون يقوي من دعائمها ويعود بالسعادة والرخاء على شعبها. وفي تناولنا لدراسة النظام الاجتماعي من المنظور الإسلامي، سننطلق من أربعة محاور هي الفرد والأسرة والمجتمع والدولة.
الفرد
الإنسان هو خليفة الله في الأرض، وقد جاء الإسلام ليشرع للإنسان ما يوفر له حياة كريمة تناسب فطرته البشرية حيث دعت الشريعة الإسلامية إلى :
1-    حماية النفس الإنسانية
حفظ النفس هو أول مقاصد الشريعة الإسلامية وقد حرم الإسلام قتل النفس "وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُم"[2] وقتل الغير "وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِِالْحَقِ"[3] ولم تجعل الآية تحريم القتل قاصراً على المسلمين فقط، بل جاءت كافة تشمل جميع البشر.

2-    حفظ الصحة
أمر الإسلام بالوقاية من الأمراض "إذا سمعتم به –أي بالطاعون- بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنت بها فلا تخرجوا فراراً منه"[4] وأمر بالتداوي "تداووا فإن الله لم يضع داءاً إلا وضع له دواء"[5] . وفي قواعد الدين والسنة أوامر كثيرة تدعو إلى حفظ الصحة كالتشديد على النظافة والوضوء والغسل والسواك وتطهير الثياب وعدم إلقاء الأوساخ في طرق المسلمين وعدم الإفراط في الأكل وعدم أكل المآكل الخبيثة وعدم شرب الأشربة المضرة بالجسم والعقل ونهى عن الخبائث بصورة عامة.

3-    حماية الأموال
أمر الشارع المسلم بالحفاظ على ماله من التبذير والإسراف "وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين"[6]. كما حرم الربا لما فيها من ابتزاز لأموال المحتاجين وحرم السرقة وأكل أموال الناس بالباطل "يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ"[7]
4-    الحرية
جاء الدين الإسلامي ليجفف منابع الرق والعبودية ويحفظ للإنسان حريته، وأمرت الآيات بعتق العبيد والإماء ككفارة لكثير من الذنوب كما حث عليه الرسول الكريم تقرباً من الله  "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من اعضائه من النار"[8]
ولم يتوقف مفهوم الحرية في الإسلام عند التحرر من العبودية فقط، بل تجاوز هذا المفهوم إلى حرية التفكير والاختيار "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُر"[9] وحرية النصح والنقد والرأي وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحرية التملك والعمل والسفر "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ"[10]
5-    الاختلاف والتميز
اعترف الإسلام باختلاف الأفراد وظهر ذلك في اختلاف التكاليف باختلاف الجنس والعمر والطاقة. ومن الناحية الإجتماعية فقد رأت الشريعة الإسلامية في هذا الاختلاف تحقيقاً لتكامل المجتمع وانتفاع الناس بعضهم ببعض "نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذّ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ"[11]  بحيث ينشأ المجتمع المتكامل الذي يؤدي فيه كل فرد دوره ولا يستطيع الأفراد الاستغناء عن بعضهم البعض. كذلك أوضحت الشريعة الإسلامية أن التميز لا يكون إلا بالعمل "إِنَّ أَكْرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتْقَاكُم"[12] ويؤيد هذا قول الرسول الكريم: "خير الناس أنفعهم للناس"[13]

6-    المساواة
وكما اعترف الإسلام بالاختلاف بين البشر أكد على مساواتهم في الحقوق والواجبات وأنه لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود. "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب"[14] رواه البخاري ومسلم والترمذي

الأسرة
رغب الرسول بالزواج لما فيه من صلاح المجتمع، فقال عليه الصلاة والسلام : "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"[15]. وراعت الفرائض والسنن الإسلامية  توطيد الروابط  الأسرية وإرساء روح الود بين أفرادها :
-         فقد أوصى الرسول الرجل أن يعاشر زوجته بالإحسان والمعروف "خيركم خيركم لأهله"[16] وأوصى المرأة بطاعة زوجها "إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع"[17] وأسس الإسلام العلاقة الزوجية على المودة والرحمة وعلى العدل بين الزوجات أو الاقتصار على واحدة.
-         كذلك أوصي الآباء أن يعدلوا بين أبنائهم "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم"[18] وأن يغمروهم بحبهم وعطفهم "من لا يرحم لا يرحم"[19]
-         وفي الآيات القرانية نجد توصية للأولاد بأبويهم "وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً"[20]
-         وشملت التوصية كل ذوي القربى "من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه" [21]
وكما حث الإسلام على الزواج وبناء الأسرة، حرم الزنا والتبني وأبغض الطلاق للحفاظ على الروابط الأسرية قوية طاهرة.

المجتمع
1-    يوحده الإيمان
الإيمان بالله الواحد هو أول دعائم الوحدة الروحية في المجتمع الإسلامي. وقد حلت الأخوة الدينية محل العنصرية فجاء القرآن يقول :"إِنَّمَا اْلمُؤْمِنُونَ إِخْوَة"[22]  وهذه الوحدة قائمة على الحب الدائم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"[23] . وقد أدان الإسلام جميع الصغائر التي تقضي على الحب وتفسد المجتمع ، فجاءت الآيات لترسم المنهج السلوكي الذي يحفظ للمجتمع الإسلامي تماسكه وتراحمه: "ولا تَجَسَّسُوا ولا يَغْتَبْ بَّعضُكُمْ بَعضاً"[24]، "لا يدخل الجنة قتات"[25]، "إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم"[26]، "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونو عباد الله إخوانا"[27] وغيرها من الآيات والأحاديث التي تبرز الأمراض الإجتماعية وترفضها.
2-    قائم على العدل
لقد قامت شرعة الإسلام على العدل ومحاربة الظلم"واللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِين"[28]  وهي شرعة واحدة تطبق على الجميع "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَو عَلَى أَنْفُسَكُم أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِين"[29]  وتشمل المسلمين وغير المسلمين "لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُم فِي الدِّينِ وَلَم يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُم أَن تَبَرُّوهُم وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِم"[30]

3-    قائم على العلم والعمل
للعلم مكانة كبيرة في الدين الإسلامي "طلب العلم فريضة على كل مسلم"[31] وقد رغب في نشره ومنع من كتمانه "من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة"[32] وجعل ثواب العلم ونشره يلحق بالمتعلم بعد موته "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أوعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"[33].
وكما رغب الإسلام في العلم، شدد على أهمية العمل ولهذا نرى الرسول يعمد إلى ثلاثة أمور :
-         الحث على العمل باعتباره وسيلة الكسب ومصدر الإنتاج "والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلاً يسأله ، أعطاه أو منعه"[34]
-         جعل السؤال أمراً مكروها لا يليق برجل قادر على العمل أن يفعله "لو تعلمون ما في المسألة، ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئاً"[35]
-         حث على الاتقان في العمل "إن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن"[36] وعلى أن يكون العمل نافعاً "خير العمل ما نفع"[37]
ولم يغفل الإسلام العناية بالعامل والأجير، فقد قرر الفقهاء أن على الحاكم إيجاد العمل لمن يستطيع أن يعمل وللعامل أن يعمل عمله بإتقان ويصون المال الذي اؤتمن عليه ولصاحب العمل أن يؤدي له أجره كاملاً "أعطوا الأحير أجره قبل أن يجف عرقه"[38]

4-    قائم على التعاون والتكافل
قال الله تعالى "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان"[39] وهذا التعاون شامل لجوانب الحياة الروحية والمادية. فقد سعى الإسلام إلى إيجاد توازن اجتماعي يقرب بين افراد المجتمع بطرق مختلفة :
-         فرض الزكاة وحث على الصدقات "والَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِلسَّائِلِ والْمَحْرُوم"[40]
-         عدد أوجه البر بحيث لا تقتصر على المال فقط "من منح منيجة[41] لبن أو ورق أو أهدى زقاقاً[42] كان له مثل عتق رقبة"[43]
-         وهناك صدقات معنوية إذا لم يجد الإنسان ما ينفق. قال رسول الله "على كل مسلم صدقة، فإن لم يجد فيعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدق، فإن لم يستطع فيعين ذا الحاجة الملهوف، فإن لم يفعل  فيأمر بالخير، فإن لم يفعل فيمسك عن الشر، فإنه له صدقة"[44]
-         رفع أجر الساعي على الضعفاء من اليتامى والأرامل "الساعي على الأرملة واليتيم كالمجاهد في سبيل الله"[45]
-         كما أوصى بالجار حتى ظن الرسول أنه يورثه "والجَارِ ذَي الْقُربَى والجَارِ الْجُنُب"[46] ، "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"[47]

5-    مراع لتميز الطبقات
وعلى الرغم من سعي الإسلام للتقريب بين الطبقات عن طريق فرض الزكاة والحث على الصدقات وغيرها، إلا أنه راعى تميزها ولم يسع إلا إلغائها أو إذابتها. ولعل في وثيقة "العهد الإداري" الذي كتبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى واليه على مصر "الأشتر النخعي" الصيغة الاجتماعية لهذه الفلسفة الإسلامية المتميزة:  "واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض، فمنها جنود الله. ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة. فالجنود حصون الرعية وسبل الأمن، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج لهم من الخراج، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب ولا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات "[48]. وبهذا تتعدد طبقات المجتمع داخل الأمة الواحدة فتوظفها دون صراع ينفي الوحدة ودون وحدة قاهرة تنفي التمايز بين الطبقات

6-    النقد الذاتي في سبيل بقاء المجتمع
ولكي يحافظ المجتمع على كيانه ويستمر على قوته على مر السنين، أمر المسلمون بالنقد الذاتي ومراجعة أنفسهم ومجتمعهم وتحديد نقاط الخلل وإصلاحها "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يّدْعُونَ إِلُى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالُمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون"[49]

الدولة
وكما وضع الإسلام أسس المعاملة بين مكونات المجتمع، وضع كذلك الأسس للكيان الحاكم لهذا المجتمع وأطر للعلاقة بين الحاكم والمحكوم.
1-    مفهوم الدولة
جاء الإسلام ليؤلف بين شعوب مختلفة ولم يكن همه البحث عما يميز ويحدد ويفصل بينها بل بحث عن عوامل التأليف لأمة أكبر وجامعة أشمل. وقد نفر الرسول من العصبية والقبلية "دعوها فإنها منتنة"[50]  وبدلا من هذه العصبية الجاهلية أرسى الإسلام للدولة مفهوماً حضارياً وحدد لأمتها معياراً فكرياً وثقافياً فخطب النبي في الناس فقال "يا أيها الناس.. ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي"[51] . فمنذ ذلك التاريخ اتسعت دائرة الأمة العربية لتضم وعلى قدم المساواة كل الذين تعربوا بالفكر والانتماء بما في ذلك العرب من غير المسلمين وغير العرب من أهل الملل الأخرى.

2-    الحاكم والمحكوم
وازن الإسلام بين حقوق الحكام وحقوق المحكومين، فللحكام  حق السمع والطاعة وفق الشريعة وحدودها "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم"[52] وللمحكومين على حكامهم حق العدل الذي هو اعظم مقاصد الشريعة "وإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ"[53] والشورى مبدأ يمنع استبداد الحاكم بالرأي أو تحكم قلة بالكثرة "فَاعْفُ عَنْهُم وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر" [54] وبهذه الوسطية لا تكون الدولة المطلق القائمة على سياسة القوة ولا جهاز القهر ولا تكون الدولة كذلك رخوة تفتح أبواب الفوضى في الاجتماع الانساني

وهكذا فقط وضع الإسلام نظاماً شاملاً للحياة الإجتماعية، راعى فيه الحقوق والواجبات كما راعى الفروق الفردية والطبقية وعني بالتأليف بين مختلف التوجهات وتوظيفها لتصب في بناء واحد جامع يقوم على أسس ثابتة من العدل والتضامن والتراحم وله مرجعية ثابتة هي الإيمان بالله عز وجل.




[1]  الأنفال : 24
[2]  النساء : 29
[3]  الأنعام : 151
[4]  رواه البخاري ومسلم
[5]  رواه أحمد
[6]  الأعراف : 31
[7]  النساء : 29
[8]  رواه البخاري ومسلم
[9]  الكهف : 29
[10]  الملك : 15
[11]  الزخرف : 32
[12]  الحجرات : 13
[13]  رواه الطبراني
[14]  رواه البخاري ومسلم والترمذي
[15]  رواه الترمذي
[16] رواه البخاري ومسلم
[17]  متفق عليه
[18]  رواه البخاري ومسلم
[19]  رواه البخاري وأبوداود والترمذي
[20]  الأحقاف : 15
[21]  رواه البخاري ومسلم
[22]  الحجرات : 10
[23]  أخرجه البخاري ومسلم والنسائي
[24]  الحجرات : 12
[25] القتات الذي يتسمع على جماعة وهم لا يعلمون ثم ينم عليهم - رواه الأربعة
[26]  الحجرات : 12
[27]  رواه الشيخان
[28]  آل عمران : 57
[29]  النساء : 135
[30]  الممتحنة : 8
[31]  رواه ابن ماجة وابن عبد البر
[32]  رواه أحمد وأبو داود والترمذي
[33]  رواه مسلم
[34]  رواه الشيخان والترمذي
[35]  رواه النسائي
[36]  رواه البيهقي
[37]  رواه الترمذي
[38]  رواه ابن ماجه
[39]  المائدة : 2
[40]  المعارج : 32
[41]  منيحة اللبن هي الناقة أو الشاة تعطيها غيرك ليحتلبها ثم يردها إليك
[42]  هداية الزقاق هي أن تدل غيرك على الطريق ليسلكه
[43]  رواه أحمد والبيهقي
[44]  رواه الشيخان
[45]  رواه الشيخان والترمذي
[46]  النساء : 36
[47]  رواه الشيخان
[48]  نهج البلاغة نقلا عن الإسلام والتعددية – د/ محمد عمارة
[49]  آل عمران : 104
[50]  رواه البخاري والترمذي
[51]  تهذيب تاريخ ابن عساكر نقلاً عن الإسلام والتعددية – محمد عمارة
[52]  النساء : 59
[53]  النساء : 58
[54]  آل عمران : 159

المراجع :
1-       المجتمع الإسلامي في ظل العدالة – د/ صلاح الدين المنجد
2-       الإسلام والتعددية ، الاختلاف والتنوع في إطار الوحدة – د/ محمد عمارة
3-       النظام الاجتماعي في الإسلام – تقي الدين النبهاني
4-       مفاهيم تربوية قرآنية، ورقة مقدمة لمركز الدراسات المعرفية بالقاهرة – د/ مصطفى رجب
5-        المنهج النبوي في بناء الوحدة، ورقة مقدمة للمؤتمر السادس للتقريب بين المذاهب الإسلامية بدمشق 2010 – عفيف النابلسي