الجمعة، 17 أغسطس 2012

قيمة العقل في أصول الفقه



يقول العقاد في كتابه "التفكير فريضة إسلامية" : "من مزايا القرآن الكثيرة مزية واضحة يقل فيها الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين لأنها تثبت من تلاوة الآيات....... وتلك المزية هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة وأمر التبعة والتكليف" فللعقل مكانة عالية في الإسلام تشهد عليها الآيات القرآنية الكريمة التي تكررت فيها مشتقات كلمة العقل والآيات التي تحث على التدبر والتفكر والنظر والتبصر إضافة إلى الإشارة إلى العقل بعدد من المترادفات كالنهى[1] والحجر[2] واللب[3] والقلب[4] والفؤاد[5].

وعلم أصول الفقه هو العلم المعني بوضع قواعد استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية بطرق مدروسة وأسس علمية صحيحة. فهو العلم الذي يؤسس لاستعمال العقل في الشرع. " وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع. وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل ، فلا هو تصرف بمحض العقول  بحيث لا يتلقاه  الشرع بالقبول، ولا هو مبنى على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد " كما يقول الغزالي[6].

وهناك من الطوائف - كالمعتزلة – من غالى في الاعتماد على العقل كمصدر للأحكام الشرعية حتى وإن خالف – في نظرهم – ما أتت به النصوص الصحيحة بينما رأى أهل السنة والجماعة أن الحاكم هو الشرع ولا ينبغي معارضة نصوص الشرع بما قد نراه بعقولنا فالعقول تتفاوت ، كما أن العقل نفسه محدود بحدود الزمان والمكان والكيفية ، وبحدود وظيفته ، ولا يستطيع أن يحيط بغير المحدود الذي يحيط به الشرع أو الوحي.

ولعلم الأصول أدلة تفصيلية يستمد منها أسس استنباط الأحكام، منها ما يسمى بالأدلة النقلية وهي القرآن والسنة وأقوال الصحابة وغيرها وما يسمى بالأدلة العقلية كالقياس والاستحسان والاستصحاب وغيرها.
ولا يقتصر إعمال العقل في الأدلة العقلية فقط، بل هناك دور للعقل في فهم الوحي قرآناً وسنة وكذلك في معرفة دلالات الألفاظ وعلة الأحكام. ويستدل على ذلك باجتهاد الفاروق عمر في إعمال العقل في النص القرآني وما ترتب عليه من إيقاف لحد السرقة في عام المجاعة وإلغاء لسهم الزكاة للمؤلفة قلوبهم لما رآه من زوال للعلة الموجبة.

كذلك للعقل دور أساسي في القياس. والقياس هو إثبات مثل حكم الأصل للفرع لاشتراكهما في علة الحكم. وهو يتكون من أربعة أركان : الأصل (ما ورد بحكمه نص) والفرع (ما لم يرد بحكمه نص) وحكم الأصل وعلة الحكم.  وللعمل بالقياس يشترط أن يكون "حكم الأصل مما للعقل سبيل لإدراك علته"[7] فهو منهج عقلي يستخدم الاستقراء والسبر والتقسيم وغيرها من مناهج الاستنباط لإدراك خواص الظواهر التي تعتبر “علة” للحكم وإثبات وجه الشبة بين الأصل والفرع ومن ثم إثبات حكم الأصل للفرع.

أما الاستحسان فهو منهج عقلي، يعرف بأكثر من طريقة منها :

-         أنه عدول المجتهد عن مقتضى قياس جلي إلى مقتضى قياس خفي أو عن حكم كلي إلى حكم استثنائي لدليل انقدح في عقله رجح لديه هذا العدول. وهنا يلعب العقل الدور الأساسي في دراسة واقع القضية والمفاضلة بين حكمين ترجيحاً لأحدهما. وقد قال مالك وابن حنيفة والشاطبي بحجية الاستحسان بناءاً على هذا التعريف
-         أنه ما يستحسنه المجتهد بعقله، دون دليل وهذا التعريف يفتح الباب للهوى والمغالاة في اعتماد العقل أساساً للتشريع وهو ما لا يقره العلماء.

و”الاستصحاب” هو بقاء حكم الأصل الثابت بالنصوص حتى يقوم دليل على التغييروبالتالي يتعلق الاستصحاب بالإدراك البشري للواقع بحيث يستمر العمل بالحكم مالم ير العقل تغيراً في الشروط التي أدت إليه، فإن رأى تغيراً عاد إلى الشرع ينظر في ماهية الطارئ وقول الشرع فيه.

ومما سبق يتضح لنا أن للعقل قيمة كبيرة في علم أصول الفقه، فهو الأداة لفهم الوحي واستنباط الأحكام والترجيح بينها، إلا أنه على أهميته، يبقى العقل كاشفاً للأحكام الشرعية وعاملاً مساعداً في الأدلة الأصولية لا يصح الاعتماد عليه كمصدر أساسي في التشريع. 

"العقل شرط في معرفة العلوم وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلاً بذلك لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين، فان اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإذا انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها
ابن تيمية


[1]  طه : 128
[2]  الفجر : 5
[3]  آل عمران : 190
[4]  محمد : 24
[5]  النحل : 78
[6]  المستصفى : أبو حامد الغزالي
[7]  علم أصول الفقه – عبد الوهاب خلاف
المراجع :
            المهذب في أصول الفقه المقارن -  د/ عبد الكريم بن علي بن محمد النملة         علم أصول الفقه – د/ عبد الوهاب خلاف
            مقال في العلاقة بين النص والعقل – يحيى رضا جاد – موقع يقظة فكر             التفكير فريضة إسلامية – عباس محمود العقاد
            العلاقة بين العقل والوحي - مجلة البحوث الإسلامية – العدد 46                 رسائل ومقالات ج 4 – العلامة الفقيه جعفر السبحاني
            دراسة : أثر علم أصول الفقه في تحقيق التميز في الدراسات الفقهية المعاصرة – د/ أحمد بن عبد الله بن محمد الضويحي